الزواج.. (وَأَخَذْنَا مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)

إنَّ من رحمة الله بعباده أنْ بين مسائل الدين وأدلتها بياناً شافياً وافياً كافياً كاملاً وفق براهين عقلية نقلية يقينية تقتضي بالضرورة التصديق بها ، والوقوف على تلكم المسائل وأدلتها مهمٌ في بابه ، لبيان المفاهيم الشرعية ومآلاتها التي تُسهم في بناء المعرفة لدى الفرد والجماعة وفق رؤية أصيلة هي بمثابة الأساس الذي يُبنى عليه ، وهي في ذات الوقت صمام أمان، مضاد للاكسدة التي تحور المفاهيم وتقولبها في قوالب غربية، فالحصانة الفكرية وفق رؤية شرعية مطلب مهم ينبغي أن يُعنى به ، كي لا تذوب هوية الأمة الإسلامية إذ الأمة بأفرادها.

 

من المفاهيم الشرعية التي ينبغي أن يُعنى بها مفهوم الزواج لأن الأسرة لا تقوم إلا عليه ، وقد وصفه الله تعالى بالميثاق الغليظ قائلا : (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) النساء : 21، والميثاق هو : العهد يؤخذ بين اثنين، والغليظ من غَلُظ بضمّ اللام إذا صلب ، وهو يدل على المتانة والقوة ، فهذا يدل على الأساس الذي يُبنى عليه الزواج فهو أساس قوي متين صلب ، يدل على البقاء والاستمرار ، فإن تعثرت الحياة الزوجية يوما ما وهذا لا بد منه حيث مُلح الحياة إلا أن أصلها باقي لأنه قوي متين لا يهتز فليس هو ريشة في مهب الريح ، وإذا كانت صحبة عشرين يوما تدل على القرابة فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج والمعاشرة والصحبة والأولاد ؟! ومن هُنا كانت العشرة بين الزوجين بالحب الذي يزكو بالمعروف وبالإحسان وبتلمس الأعذار وبالتغاضي عن الهفوات وبالتفهم وبالتقدير ، فالزوجية لا تقوم إلا على السكن والمودة والرحمة والتكامل والتعاون والإيثار .

فعقد النكاح عقد غليظ لدلالته على الدوام ، فالحياة الزوجية عقد مستمر منتج ، مثمر ، يتوالد ليتكاثر ، صيانة للذرية ، حفاظا على الأولاد ، لتحقيق التوازن النفسي الذي يحتاجه الإنسان كي يعمر الأرض بعبادة الله.

ومن يتأمل القرآن يجد أن الله تعالى وصف الميثاق بأنه غليظ في ميثاق الزواج وفي الميثاق الذي أخذه من النبيين قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا )الأحزاب : 7 ، وهذا الميثاق أخذه الله من النبيين ومن أولى العزم من الرسل لإقامة دين الله، ولإبلاغ رسالته، وللتعاون وللتناصر وللاتفاق وهو باقٍ .

ألا يدل ذلك على عِظَم عقد الزواج ؟! أليس جدير بنا أن نقف مليا عند وصفه بالميثاق الغليظ ؟! ألا يدعونا ذلك إلى التريث في اتخاذ أي قرار لفسخ هذا العقد الغليظ ؟! ألا يحد هذا من ظاهرة الطلاق التي تفشت في مجتمعنا ؟!

 

إنَّ الفقه بأنْ الزواج ميثاق غليظ هو الذي حدا بالمجادلة التي جاءت للنبي تجادل في زوجها حينما ظاهر منها وقال لها : أنت علي كظهر أمي فحرمت عليه ، فهي تشتكي إلى الله فاقتها للحفاظ على زوجها وذريتها وبيتها ، قائلة : يا رسول الله طالت صحبتي مع زوجي ، ونفضت له بطني ، وظاهر مني، ورسول الله يقول لها : حرمت عليه ، فتعيد وتلح وتشتكي إلى الله صيانة للميثاق الغليظ حتى نزل الوحي على النبي صلى الله عليه سلم (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما )المجادلة :1ونزلت كفارة الظهار لأجل المجادلة التي تحاول جهدها للحفاظ على بيتها وأسرتها.

أليس حري بنا أن نتأسى بحرص المجادلة على بيتها وأسرتها ودوام الميثاق الغليظ مع زوجها ؟!

إنَّ المجادلة لم تلتفت لعاطفتها فتلهبها لتأنف من استمرار حياتها الزوجية مع زوجها ، لم تنظر لحقوقها فقط لتطالب بها، بل كانت تنظر فيما يجب عليها حيال هذا الحدث الذي هزَّ أركان مملكتها، إنها سعت جاهدة لتغيير ما حل بأسرتها ، لم تكن تتقمص دور المظلومة ، فتسرد الحدث لاستمالة العواطف حولها ، إنها تظهر فاقتها لربها فتشتكي له لما نزل بها فصدع أركان أسرتها بغية استمرار حياتها الزوجية ، لا سعيا للخلاص منها ، أو تشكيا مما اقترف زوجها بحقها ، لم تكن لها ردة فعل انعكاسية ، لم تصرخ وتولول ، لم توسع دائرة الخلاف حتى لا يتدخل الأطراف ، إنها لم تكن أحادية النظرة فتنظر في نفسها فقط ، إنها لم تضخم الحادثة، إنها كانت تبحث عن حل لتتخطى العقبة، لتتجاوز الأزمة ، إنها بادرت في البحث عن المخرج للجميع وليس لها فحسب ، إنها كانت تنظر لنفسها مع زوجها وأولادها حيث حياتها ، إنها ملكة تحافظ على مملكتها .

إنَّ تحكيم الشرع والعقل حين تعصف بالأسرة أي ريح هو الحل الناجح حقيقة ، إذ تحكيم العاطفة وحده يعمي ، فتتركز النظرة على الجانب السلبي فحسب كمن يركز النظر حول نقطة سوداء في صفحة بيضاء ، كما يتمركز النظر القاصر للانتصار للذات فقط، وهذا مكمن الخطر !!

لذا كان ينبغي علينا أن نعطي لعقولنا مساحة من التفكير في اتخاذ أي قرار خاصة في القرارت المصيرية ، ولتنزوي العاطفة حيال اتخاذ القرار ، وليكن لدينا بعد نظر ، وتفكير في العواقب والمآلات ، ولنستخير ولنستشير لتتسع آفاقنا ، ولا تكن قراراتنا الزوجية ردة فعل انعكاسية لموقف ما عابر فالزواج ميثاق غليظ يقدر ولا يهدر .

 

بقلم

د/ سامية ياسين البدري

مشاركة على حسابات التواصل الاجتماعى