عسكرة العلاقات
أ.د. خالد الشريدة
الألفة بين الناس تنتعش بعدم الكلفة.
وكل علاقة وصداقة يجب أن تكون ودية طبيعية لا تحسس فيها ولا توجس.
المشكلة المقلقة هنا هي أن هناك نفسيات لا تحسن في علاقاتها إلا الشدة والحدة والتشكك والإثارة؛ وكأنها في ثكنة عسكرية. والسبب أن هذه الشخصيات لا يكون لها ظهور إلا أن تكون هناك بيئات محفزة للاضطرابات.
وهذا يعني أنه مع الأجواء الطيبة والودية والراقية تختفي هذه الفيروسات الإنسانية.
وهذه الأنماط المتعبة تحب أن تنتهك ليس الخصوصيات فقط بل ربما تجرأت على النيات.. حتى الذي لا يعلمه إلا الله أصبحت بهيجان شيطاني تعلم ما تكن الصدور.
(تقول لنفسها.. نعم إنه يقصد ويقصد ويقصد.. لتصل لأعماق عجيبة لم تدر بخلد احد)!
ويريد البعض أن تضرب لكل ما يقول ويفعل التحية، وكأنك مجبور كما الجنود أن ترفع كفك إلى ما فوق حاجبك لتلقي له بالترحاب.
وهناك من يريد أن تضرب له صدرك بالقبول لما يقول كما يضرب الجند التحية لمن هم أعلى منهم رتبة!
وعسكرة الحياة مفهوم يعزز مشكلة الارتياب على حساب مفهوم الطمأنينة في الارتباط..
وقد تجد من ابتلي بهذا المسلك المتعب من قرابتك أو معارفك ومن زملاء العمل أو من تشاركهم في وسائل التواصل وغيرهم.
ومن أبواب العسكرة:
*_هناك من قد يثير كلاماً يريد منه التقليل من مكانتك أو التشكيك في سمعتك.
*_هناك من يعلق على أغلب الطروحات في القروبات وكأنه وصي على كل كلمة.. ومسؤول على أن يتوافق كل ما يطرح مع ما يظن أو يرغب.
*_ وهناك من يعلق على كل شيء ويفسر المقاصد بطريقة لا تخطر على بال أحد.. حتى يمل المشاركون من المجموعة وربما يبقون مجاملة لا رغبة.
*_ هذه النوعية من العلاقة والارتباط تخالف طبيعة ورقة الحياة الاجتماعية.. ويمل منها الأريحيون.
*_ وهناك من قد يكون في قلبه غل وحسد فيظهر بمظهر الوطني المخلص ثم يتحدث عن آخرين مقللا من شأنهم أو مشككاً في نياتهم كي يسقطهم من حسابات معينة.
_ وهناك من طبيعته الشدة في تكوينه لأسباب أسرية أو تربوية أو ظروف معيشة. فيعامل الناس كما تم التعامل معه.. *وكأننا مسؤولون عما حدث له. أو كنا سبباً في متنغصات حياته.. فيريدنا أن نكون كذلك مثله.
*_ كل من تبنى هذا المفهوم هو في الحقيقة يضيق على نفسه ويجعل التكلف أصل في التعامل معه.. !! والنتيجة تجد صعوبة في أريحية التعامل معه وأشكاله.
*_ وهناك أبواب أخرى من العسكرة سواء في تعاملات الوالد مع أولاده بحيث يشعرون بأنه رقيب على كل حركة وسكون.. !! والنتيجة أن يتعامل الأولاد معه بغير الحقيقة.. بل يتكلفون له الكذب وخلق المعاذير.
*_ ومن ذلك التجسس والتوجس في العلاقات بين الأزواج (ورغبت البعض أن يطلع على كل رسالة تصلك) حتى أصبحت من أبرز أسباب الانفصال والدمار الأسري!
ولكل مستوى من المستويات تعاملات عسكرية مثيرة ومسيئة وجوانب لا تخفى على أصحاب الحس الاجتماعي سواء بين الموظفين أو غيرهم.
وليس هناك أجمل من بث روح الودية والصفاء مع مختلف العلاقات، وهذه يؤكدها مؤشرات عديدة، وأهمها أن تشعر بالحديث مع غيرك وكأنك تتحدث مع نفسك.
وإذا كان الود والبر مطلوبين في التعامل مع من نختلف معه في الدين فكيف بمن هو من دينك وقرابتك وصحبتك
﴿لا يَنهاكُمُ الله عَنِ الَّذينَ لَم يُقاتِلوكُم فِي الدّينِ وَلَم يُخرِجوكُم مِن دِيارِكُم أَن تَبَرّوهُم وَتُقسِطوا إِلَيهِم إِنَّ الله يُحِبُّ المُقسِطينَ﴾ [الممتحنة: ٨]
وحتى ننتهي ببشارة لمن لم يبتلَ بهذا المرض أحب التأكيد بأن نسبة كبيرة من مكونات الراحة كما تؤكدها دراساتنا النفسية والاجتماعية هي ترك الناس يعملون على طبيعتهم ويبادلونك مشاعر الرضا والثقة؛ لأن الشعور بالأمان (بالتعامل) هو أرقى ما يتطلبه الإنسان.
والمشكلة التي تتبع طبيعة العسكرة في العلاقات هي أن هناك سلسة من الظنون السيئة المتوالية والمتتالية التي تحاول أن تؤكد ما ليس له تأكيد أو تكذب ما حقه التصديق.. وكل ذلك نابع من إشكالية الجندي الداخلي الذي لا يقبل إلا أن تلقي له التحية رافعا يديك وربما رجلك كما العسكر.. حتى ولو كنت أحق بها منه.
ختاماً أقول: العسكرة أصلها لحفظ الأمن وليس لبقاء الحب والود.. فهل يعي المعسكرون لعلاقاتنا ذلك.
جعل الله كل علاقاتنا ودية حبية خيرية تقرب بيننا المسافات وتبعد عنا كل ما لا يليق من أفعال وأقوال وسلوكيات.
جامعة القصيم 4 \ 10 \1439